لم يعد من الخافي أن البلاد التونسية تمر منذ بضعة سنوات بأزمة لغوية كبيرة تتمثل في انحطاط المستوى العام باللغتين العربية (لغة رسمية ولغة عامة الشعب) والفرنسية (اللغة الأجنبية الأولى) من تداعياته تفشي تداخل اللغتين العربية والفرنسية في كلام شريحة واسعة من التونسيين وعجزهم المعلن عن صياغة أفكارهم في منظومة لغوية واحدة [1] وكذلك في هيمنة اللغة الفرنسية على عدة مجالات تصل إلى حدّ إقصاء تام للعربية في بلاد ينصّ دستورها على أن “العربية لغتها” وليس للفرنسية فيها أية شرعية دستورية أو قانونية. وإن نصّ دستور الجمهورية التونسية الجديد لسنة 2014 في فصله 38على أن الدولة ” تعمل (…)على ترسيخ اللغة العربية ودعمها وتعميم استخدامها ” فإن ذلك يبقى في غالب الأحيان حبرا على ورق. ويكتسي الأمر خطورة خاصة عندما يمس القطاع الثقافي والفني الذي يفترض أنه يبلور روح المجتمع وهويته وتطلعاته.
وفي غياب قانون واضح يجبر على احترام اللغة الوطنية صار تهميش العربية وإقصاؤها جاريين بكثرة في المؤسسات والتظاهرات الثقافية الخاصة الغير تابعة لجهة حكومية رسمية ولا سيما تلك التي تمول عن طريق بعثات أجنبية أو تلك التظاهرات التي تقام في المدن أو الأحياء الميسورة أو التي يخطط لها ويمولها ويشرف عليها تونسيون ممن قطعوا صلتهم بالعربية المكتوبة وحتى المقروءة بصفة شبه كلية لسبب أو لآخر[2]. ولا حبل اعتصام يشدنا من الغرق إلا بعض المبادرات الفردية والمؤسسات الواعية والمناضلة أو ما تشرف عليه جهات حكومية رسمية كوزارة الثقافة مثلا التي تلتزم باستعمال اللغة الوطنية ولو بطريقة غير مرضية تماما في بعض الأحيان.
ولكن لفت نظري مؤخرا وفي سابقة لا تنبئ بخير أن تظاهرة جديدة من التظاهرات التي تشرف عليها وزارة الثقافة وهي “أيام قرطاج الكوريغرافية” و التي انعقدت من 26 جوان إلى غرة جويلية المنقضيين دورتها التأسيسية الأولى قد ارتأت الاقتصار على اللغة الفرنسية وأقصت اللغة العربية تماما من مناشيرها باستثناء إدراج الاسم العربي للتظاهرة في هويتها البصرية وخربشة تشكيلية صرفة بالحروف العربية المكونة لكلمة “رقص” مهمّتها تزويق مناشير الدّورة . ولم تدرج اللغة العربية إلى جانب الفرنسية في أي مطبوعة من مطبوعات التظاهرة ولم يترجم أي نص إلى العربية ولا حتى عناوين الأعمال الفنية وبعضها ,من مفارقة الأمور, مترجم إلى الفرنسية من العربية مثل
« sur le pas de ta porte »
التي أصلها “على باب دارك” وهو اسم أغنية تونسية قديمة وبعض العناوين مصاغ بالعربية ومكتوب بالأحرف اللاتينية مثل
l’Haal و Bnett Wasla و Nass
و غيرها. بل إن من المضحكات المبكيات أن بعض المقالات الصحفية المحررة بالعربية والتي روجت لبرنامج هذ التظاهرة قد أدرجت أسماء الأعمال كما هي بصيغتها الفرنسية أو الإنجليزية وحتى العربية بالرسم اللاتيني داخل النص العربي
ولست أدري إن كان هذا التقصير مقصودا أم إنه ينمّ عن تهاون ولكنه في كلتا الحالتين غير مقبول بالمرّة : أولا ولأنه صادر عن تظاهرة تشرف عليها الحكومة ممثلة في وزارة الثقافة (وما أدراك ما الثقافة) فإن في الأمر خرق للدستور و استهتار باللغة القومية وبلغة الشعب وتكريس واع أو غير واع للتبعية الثقافية والفكرية للسياسات الأجنبية والفرنسية تحديدا , ثانيا في الأمر إقصاء للتونسيين اللذين لا يحسنون الفرنسية وهم كثر وكذلك للتونسيين اللذين لا يحبذون استعمالها.
وإن شكلت هذه التظاهرة الجديدة بادرة مهمة لقطاع فني عانى من التهميش طويلا فإن إقصاء العربية من أيام قرطاج الكوريغرافية يشعرنا بمرارة كبيرة إذ يبدو أنه يترجم الخلفية الذهنية للقائمين عليها وتمثلهم للرقص المعاصر والكوريغرافيا في هذا البلد بشكل عام بحيث يبدو أن هذين الفنين يرتبطان لديهم بالنخبوية الفرنكوفونية (وفي هذا في الواقع شيء من الصحة) أو ربما أنهم لا يتمثلون الرقص والكوريغرافيا إلا بارتباط بالأجنبي والجانبي وهذا ربما ما يفسر الخطاب حول الأجانب والأقليات الذي أقحم في هذه التظاهرة :
” تسعى هذه الدورة بحسب القائمين عليها، إلى رسم الخطوط العريضة لفضاء حواري متسّع حول مختلف أنواع الإكراهات التي تحصر الأجساد و أشكال الإقصاء التي يعاني منها الأجانب و النساء و الأقليات. تتكون هيئة المهرجان من فريق شاب ونسائي أساسا، “دينه الالتزام الفني والإيمان بالجسد الراقص كفضاء للتفكير والكفاح من أجل الحريات والأقليات” .
ويحيل هذا الخطاب ذو النكهة الاستشراقية التي عانى منها في تونس الإنتاج السينمائي تحديدا لارتباطه بالتمويل الأجنبي والأوروبي بالأساس على خلط مفاهيمي يدل للأسف على أن تمثل الرقص والكوريغرافيا يقترن في ذهن المخططين لهذه الدورة بإشكاليات لا دخل للرقص والكوريغرافيا فيها بل هي تشوش على القضايا الفنية والجمالية والتقنية والمهنية وغيرها من المواضيع التي يطرحها هذا الفن في بلادنا وفي المنطقة وفي الخارج . فالرقص فعل عضوي عميق ينبع من باطن المجتمع ومن داخل أحشائه ويرتبط ارتباطا وثيقا وعضويا بكل المكونات الجغرافية والاقتصادية والثقافية التي تشكله (واللغة مكوّن هامّ فيها) وليس إسقاطا فنيا وتقنيا وليس يقترن بالأجانب والأقليات وليست قضية المرأة من مشمولاته الأساسية. وحتى وإن استعيرت بعض التقنيات من عند “الأجانب ” فإنها لا تتجذر ولا تزهر إذا لم تتفاعل مع ثقافات الشعب العميقة يعني أنه في الأخير ارتباط أيام قرطاج الكوريغرافية والرقص المعاصر عموما بالنخبوية الفرنكوفونية (المرتبطة بدورها بأوروبا وبفرنسا أساسا ) وبالخطابات حول الأقليات والأجانب وبكل الخطابات المستوردة من مختبرات أبحاث الجامعة الفرنسية [3] لن يساهم في تطوير هذه التظاهرة ولا في النهوض بهذا الفن في تونس بالشكل المرجو ولن يؤدي إلى ازدهاره وتعميمه ولا إلى تحقيق نهضة حقيقية في مجاله بل لن تكون نتائجه إلا السطحية والتصنع و الانبتات عن الواقع العميق الذي يطعّم الإبداع الحقيقي والجمالية الفذة .
كما أن استعمال لغة أجنبية لا يحسنها عدد كبير من التونسيين ينتمي جلهم إلى الشرائح الاجتماعية الضعيفة أو إلى المناطق الداخلية للبلاد في تظاهرة تشرف عليها الدولة وتتدعي في خطابها أنها ملتزمة بنبذ الإقصاءات لفيه تناقض كبير وخلل لا بدّ أن يتدارك إلا إذا كان المعني بالإقصاءات الأقلياتَ والأجانبَ من دون عامة الشعب.
ولا يفوتني أن أذكر أن أول تظاهرتين سمّيتا ب”أيام قرطاج” وهما أيام قرطاج السينمائية و أيام قرطاج المسرحية تأسّستا برؤية إقليمية مناضلة ذات بعد إفريقي و عربي بالأساس منحاز إلى ثقافات الجنوب في مواجهة الهيمنة الإمبريالية السياسية والثقافية المسلطة عليها من دول الشمال (رغم أن هذا الالتزام سجل بعض الحياد عن طريقه في السنوات الأخيرة), فإن اختارت هذه التظاهرة الجديدة المخصصة للرقص والكوريغرافيا أن تتخذ نفس التسمية فنرى أن عليها أن تتحلى بنفس الصفات إذ أن من أبرز مظاهر الهيمنة الإمبريالية المسلطة على بلدنا وعلى جزء كبير من قارتنا ومن البلدان العربية لهي هيمنة اللغة الفرنسية ومطاردتها الشرسة للّغات المحلية وللغة العربية تحديدا وهو ما يتمّ للأسف بتواطؤ واع أو غير واع من النخب المحلية. وليست هيمنة اللغة الفرنسية وسياسات دعم الفرنكوفونية كما هو معلوم إلا نمطا من أنماط سياسة القوة الناعمة التي تتوخاها القوى الإمبريالية تمهيدا وتسهيلا للهيمنة الفعلية، الاقتصادية بالخصوص.
ورغم تعبير هذه الدورة عن اهتمامها بدعم لقاءات بلدان الجنوب وب “التوجه للبلدان العربية والإفريقية” فإنني أتساءل مثلا عن معنى هذا التوجه حين تقصى اللغة التي تجمعنا بالفنانين القادمين من مصرو سوريا ولبنان و فلسطين مثلا ؟ كيف يطّلع هؤلاء الضيوف على فحوى برنامج الدورة ومحتوياتها ويتابعون بعض فعالياتها المعتمدة على الفرنسية؟ أليست اللغة العربية القاسم المشترك بيننا وبينهم بينما تمثل الفرنسية تحديدا عامل التفرقة والتجزئة؟ أم صارت الفرنسية هي الجامع الجديد بمعية الإنجليزية ؟
وختاما أريد أن أشير ,بما أن الحديث يخص تظاهرة ثقافية تقرن اسمها باسم قرطاج, إلى أن اللغة البونيقية (يعني اللغة الفينيقية بشمال إفريقيا أي لغة قرطاج في العهد البونيقي) شبيهة جدا باللغة العربية إذ تنحدران من نفس الأسرة اللغوية وهي أسرة اللغات السامية [4] التي تضم كذلك العبرانية والآرامية و السريانية من ضمن اللغات التي لازالت متداولة وغيرها انقرض , ولذلك يكون من الأجدر في سياق هذه الإحالة التاريخية وهذا الحنين المتزايد إلى عهد قرطاج أن تحظى الوريثة الشقيقة للغة قرطاج والتي يحصل كذلك أنها اللغة الرسمية للبلاد ولغة عامة الشعب منذ ما يزيد عن الألفية بالمكانة التي تستوجبها وأن لا تُقصى لصالح لغة ,وإن نحترمها ونحترم ثقافتها, فإنها في الواقع فُرضت على بلدنا بفعل استعمار يبدو أنه لم ينته بعد
[1] واعتماد هذا التداخل عفوا أو عمدا في وسائل الإعلام المسموع والمرئي وهي ظاهرة جديدة تفشت بسرعة مذهلة في السنوات الأخيرة
[2] على سبيل المثال تظاهرة “جو تونس” التي تمولها مؤسسة كمال الأزعر أو جمعية “تفنن“التي تنظم تظاهرة “الطوباويات البصرية ” والتي تقتصر على اللغة الفرنسية والأمثلة الأخرى كثيرة ومتعددة
[3] إن المطّلع على الانتسابات المهنية للمتدخلين في الملتقيات الفكرية لهذه الدورة (وحتى لمنظّميها) يتبين فورا ثقل التبعية إلى الجامعة الفرنسية كما يبدو أن عددا لا بأس به من الفنانين المشاركين يقيمون في فرنسا ولا شك أن تكون هذه التبعية الوثيقة مرتبطة بالتمويل , ولسائل إذا أن يتساءل إن لم يكن الاقتصار على اللغة الفرنسية في هذه التظاهرة إملاء من إملاءات المموّل السّخي.
[4] وهو بعض ما يفسر بالمناسبة السهولة التي انتشرت بها اللغة العربية بشمال إفريقيا